الأربعاء، 14 مايو 2014

مذكرة(عملية جراحية)



أخبرتنــي أمي عن الحوار الذي دار بينهـا وبين طبيبي ، لربمّا لم يكن كل ما أخبرتني به دقيقاً إذ من الصعب لطفلة عمرها ستة أعوام أن تستوعب كلاماً مماثلاً . الأهم فيما قالت أن عملـيتي الجراحية ستكون بعد انتهاء هذا العام الدراسي ، أي قبل أن أبدأ الصف الأول الابتدائي . 


رغم خوف الأطفال الذي اجتاحني إلا أنني دائما ما كنت أشعر بالحماس لكل تجربة جديدة ، ولربما ذاك الشعور هو مَنْ بثَّ لعقلـي خيالات - لا صحة لهـا - عن التجربة الجديدة والتي تبدو ذكراها مضحكة للغاية  .


 أول يوم لي في المستشفى كان مليئاً بالصَّرَخات الطّفولية الحقودة على الأطباء والعاملين في المستشفى ، أتذكر  الممرضة الهلباجة التي أرادت أن تكسبني بغباء ، قبل إعطائي تلك الإبرة المخيفة والتي لا أعلم ما فائدتهــا . أتذكر جيدا كلماتهـا " شوفي هدى ، تشوفي هذا؟ . "تقصد محلول الإبرة " هذا ماي .. أنتِ كل يوم تشربي ماي صح ؟! " قلت بحذر طفولي يستغبي الممرضة " متأكدة أنه ماي؟" .. قالت " أنت شو تشوفيه؟"لم أعرف كيف أُجِب ، مظهره يوحي لذلك بالفعل ، لكن هل يعقل أن يكون ماء في إبره !! .. كانت تدور في بالي هذه الأفكار بصمت . 

أجلستني الممرضة على سرير ذات فراشٍ ناصع البياض .. أمسَكَت بيدي ، تناظرها الممرضة الأخرى بالقرب مني . خاطبتني الممرضة الأولى "
 شوفي الساعة" أشارت إليها في الجهة المقابلة. 

رأيتهـا ، كانت ساعة حائط عادية جداً ، فالتَفَتتُ إلى الممرضة وكأنني أقول لها (
يا للعبط ) . أضافت"شوفي الساعة عشان أخلص وأنت ما تحسي بشيء " . على غفلتي البريئة بدا لي الأمر حقيقي . بدأت أراقب عقارب الثواني تيك توك تيك توو آآآآآآآآه .. انغرس طرف الإبرة في يدي ، كم كان مؤلماً ! .. سقطَتْ دموعي كأي طفلة صغيرة وصرختُ باكيةً بكلَّ قوة أملكهـا في وجه الممرضة " كذااااابة ، كذااااابة قسم بالله تقولي ماي ما يعور " تدخّلَت الممرضة الأخرى ممسكةً بي  .حاولت الممرضة الأولى أن تنهي الأمر سريعاً . وما لبثت أن أخرجت الإبرة حتى انهالت عليها الضربات من يديّ الصغيرتين ، وكانت ضحكاتُهـا على شراستي البريئة تزيدني طاقة للاستمرار في( التكفيخ ) " يااا الشريرة ما زينة ، كلكم ما زينييييين بخبر عليش عمي بدر " العبارة التي سمعهـا كل الأطباء ، عمي ( بدر ) البطل المنقذ لاسيما أنه الطبيب الوحيد الذي أشعر معه بالأمان .

أتساءل أين كانت أمي حينهـا ، لكنني لا أجد الجواب ، لا أتذكر لِمَ كنت لوحدي مع الممرضتين . هناك الكثير من الحلقات المفقودة في هذه الذكرى . لا أتذكر الكثير عن هذه الليلة إلا أنني قد نُقِلتُ إلى القسم مع والدتـي وأخبروني أن عمليتي ستكون ف اليوم التالي . 


كنت في قمة هدوئي تلك الليلة بجوار والدتي . علّ أمي لم تكن تعرف ما يستره صمتي إلا أنه لا يخفى على أمي عقلي الذي يفكر بشكل غريب كما تصفه  .
 سألتني أمي كما أتذكر "
 هدهد الحلوة .. شو فيك؟ " . أَجَبْتُهَـا إجابة لربما كنت أصف فيها ما كنت أتخيل أنه سيحدث في الصباح الباكر ، ولكنني طفلة صغيرة تمر للمرة الأولى بهذه التجربة ، لذلك شعرت بشيء من الخجل منعني من إخبار أمي الحقيقة الكاملة ، إذ خال إلي أن ما أفكر به سيكون مضحكاً لربما ، فأنا لا أعرف ماذا سيحدث ! . أجبت والدتي " عاد باكر بيعذبوني هذيلا الدكاترة .. خليهم يفرحوا" . تحركت أمي حركة خفيفة " ليش يعذبوك ! ما يعذبوك حبيبتي " . صمتت حينهـا ، لم أستطع أن أصف المشهد المرسوم في مخيلتي لأمي ، بيد أن ذلك كان مضحكاً ويستحق التذكر، إذ لم أكن أعرف غرفة العمليات حتى ، كنت أتخيل عدد هائل جدا من الأطباء يلتف حول السرير الذي كنت أرقد عليه ، عدد كبير منهم إلى درجة أنني لا أرى أي شيء حولي سوى بياض ملابسهم !وكنت أرى أياديهم المقفّزة تنهال علي جميعهـا . والمعدات الطبية وكأنها تتطاير هنا وهناك لكثرة تبادلهم إياهـا . وأنني كنت أنظر إلى وجوههم المغطاة بالكمامات الطبية في خوف شديد  .
لم أقل شيئا لوالدتـي بعد ذلك . أغلقت جفنيّ أناشد النوم باختطافي . حتى أفقت مرتعبة على الصوت الذي تصدره الستائر عندمـا كانت الممرضة تسوّر بها سريري . أهدتني الممرضة ابتسامة مريحة وأخبرتنـي أنهـا ستحقنني بإبرة مخدرة . لم أرفض ولم أصرخ وإنما أمسكت أمي بكل قوّتي وكأنني فقط أفرغ الرعب الذي ينتابني تجاه ألم الإبرة . انتهت النوبة ببعض الدموع ، وأظنني أعتبرها نهاية محمودة خالية من النحيب والتهديد الدائمين  .

  مفعول التخدير كان كفيلاً بسكون كل جزء من جسدي باستثناء عينيّ . كلّما انسدل طرفي أيقظتني خطوات ممرضة ، همس طبيب  ، أو لربما ما هو أبسط من ذلك . أحسست فجأة بسحب شديد للسرير الذي قد نقلت عليه من غرفتـي ، ظننت أنني سأدخل المكان الذي ستُجْرى فيه العملية ، إلا أننا اتجهنـا إلى قسم آخر ، بدؤوا بنقل طفل آخر إلى جانبي ، وفور لمسه أصدر صرخآت هزّت أركان القسم ثم بدأ يبكي بكاءً لم أشهد بكاء بقوته ، نظَرْتُ إلى أمي مرعوبة ومصدومة ، أدْرَكَتْ تعَجّبي فأجابت عليه " منكسر وبيسووا له عملية " . لم أتفوه بكلمة . تركت جسدي يسترخي بعد مقاومتـي لمفعول التخدير حد الإنهاك .

لا أذكر بعد ذلك إلا عبارة الممرضة التي استقبلتني فور استيقاظي " نامي هدى بعدنـا ما خلصنا " . رأيت الطاقم في غرفة العمليات ، كان عددهم بسيط . أدركت وجود بعض الأقطاب على صدري موصولة بأسلاك ، لا أعلم ما فائدتها . أعدت رأسي إلى السرير ولا أعلم ماذا حدث بعد ذلك . إلا أنني أدركت انتهاء المعاناة فور رؤيتي لوالدتي في القسم عند استيقاظي للمرة الثانية .
#هدى_سيف












هناك 19 تعليقًا:

  1. ذكريات جميله قد تجعل من الماضي المؤلم حاضرا مضحك.... .. اتوق لمعرفة باقي البوم طفولتك ..ظ

    ردحذف
    الردود
    1. في الواقع كنت دائما أرى أن في حياتي ما يستحق الذكر
      فبدأت أسرد الماضي القديم قبل الماضي القريب !

      شكرا لوجودك هنا . تحياتي

      حذف
  2. محمد الخروصي15 مايو 2014 في 12:43 ص

    روعة هي كلماتك
    والاروع طريقتك لجذب القارئ اكثر فأكثر
    استمري اختاه
    وفقك الرحمن

    ردحذف
    الردود
    1. شكرا جزيلا أخي محمد ..
      أتمنى أن تكون التدوينات القادمة أفضل . وتروقكم أكثر

      بوركت

      حذف
  3. هدهد حياتي لإبره كانت إبرة الحساسية
    وانا كنت هاربه من صرخاتك التي تألمني ♡
    خواتج من كثر مااضحك وأتذكر الخطوات وخوفك من الدكاترة يسألني صدق أمي اكيد صدق
    ومن كثر خوفك منهم لما قال لك الدكتور هدى تقدري تأكلي عشرة إيسكريم اليوم قلتي له ع كيفك انت !

    ردحذف
    الردود
    1. ههههه أيوا أمي أتذكره .. ع فكره كنت أريد أكتبها سالفة الآيسكريم بس حسيت اني بطول .. ما حبيت اللي يقرأ يمل من طول التدوينة ..

      خخخخ ع فكرة بعد اتذكره لما قال لك انه اللي اسويه عناد بس .. وانه لو ما كانوا يريدوني اكل آيسكريم بغايض وبكل !
      شقية 😎

      حذف
  4. جميل ♥♥

    ردحذف
    الردود
    1. شكرا لك أشواق .. 🌷
      وشكرا لمتابعتك كتاباتي

      حذف
  5. أحلى شقاوة ياحياتي
    ليتكم ماكبرتوا كذا

    ردحذف
    الردود
    1. أمي حبيبتي
      أنا كبرت بالعمر
      لكن أعتقد تعرفي أن عصفورتك بعدها خبلة ههههه
      كلها كم يوم وجايه إن شاء الله
      واسوي لكم حشرة من جديد

      حذف
  6. سعد البرواني15 مايو 2014 في 4:52 م

    الكاتبه هدى أنت مبدعة وخاصة في آخر تدوينتان وهناك بعض الكلمات أو العبارت التي شدتني ، ياللعبط ،، قسم باالله تقولي ماي مايعور ،، تكفيخ

    ردحذف
    الردود
    1. أهلا بك سعد هنا .. ويسعدني وجودك الدائم
      أنا ما زلت مدونة صغيرة ينمو بداخلها حب الكلمات ورغبة تخليد النفس بهذا الحب .
      قد أصبح كاتبه ف يوم .. من يدري

      بالنسبة للكلمات .. أضفتها لتكون قريبه من قلب القارئ خاصه وأننا نستخدم لهجتنا العامية أكثر.

      شكرا لك سعد .. شكرا جزيلا

      حذف
  7. موقف مخوف لكن روايته رااااائعه وثقتك اروع هداو موفقه بإذن الله

    ردحذف
    الردود
    1. تسلمي غاليتي
      كل الشكر ع وجودك المستمر

      حذف
  8. ههههههه جميييل . استمتعت
    شكرا هدوني ~ كنت بذاكر فيزياء بس قلت بفتح مدونتگ أول اتسلى بعدين ببدي ~ وبالفعل كانت مسلية =) تآبعي ~ بالتوفييييق لگ حبيبتي

    ردحذف
    الردود
    1. شكرا مزووون .. تسلمي
      بالتوفيق غاليتي

      حذف
  9. سرد جميل هدى. ..
    متأكدة ان دوامك غدا في المستشفيات حين تبدأين سنواتك الاكلينيكية سيحمل معه الكثير من القصص لتروى...
    فعلا خلطة سحرية ان تكون طبيبا وكاتبا
    موفقه حبيبتي

    ردحذف
    الردود
    1. منيرة سيف ..
      وجودك يعني الكثير عزيزتي

      إن شاء الله أكون عند حسن الظن وتستمتعوا بالقادم ..

      شكرا لتشريفك مدونتي

      حذف